عاجل

« الجوال» قصة قصيرة للكاتب الدكتور محمد محي الدين أبو بيه

الكاتب الدكتور محمد محي الدين أبوبيه
الكاتب الدكتور محمد محي الدين أبوبيه

  عند دوران ميدان لبنان بالمدينة توقف حازم بسيارته وترجل منها قاصدا أحد محال الجولات ليقوم بإصلاح هاتفه النقال الذي غمرته المياه وهو يضعه على المنضدة فانسكبت عليه قارورة المياه الغازية وهو يحدث نفسه هل يستطيع مسئول الصيانة إنقاذه من الغرق؟ فكل أعماله وصوره عليه وماذا سيفعل إذا لم يتم الإصلاح؛ على العموم توكل على الله وكله أمل ودلف إلى داخل المحل

: (لوسمحت ممكن تشوفلي الموبايل )

: (حاضر دقيقة واحدة)

تأمل حازم الرجل وهو يقوم بفكه ويحدوه الأمل أن يكون الأمر بسيط

: (حضرتك ممكن تسيبوهلي ساعه وترجع)

: (تمام)

 

في هذه الأثناء كانت هناك فتاة تقف خلفه وعن غير قصد اصطدم بها فأبدى اعتذاره لها وهَمّ بالخروج.

 

وبعدما تجاوز الباب وجدها تخرج وراءه وتنادي عليه

: (يا استاذ ...)

: (أيوه أأومريني)

كان واضح عليها أنها بسيطة ولا يتجاوز عمرها العشرين عاما

قالت له بشيء من التردد

: (أنا مش من هنا وعايزة اروح لأمي اللي في المستشفى)

هذا النوع من الشحاذة يعرفه.

 وقبل أن تكمل كلامها وضع يده في جيبه ليعطيها خمسة جنيهات لكنها فاجأته قائلة

: (لا حضرتك فهمتني غلط.انا مش عايزة فلوس ممكن تاخدني في سكتك مش دي عربيتك)

اتتظر برهة قبل أن يرد عليها وكأنه يستشير نفسه بالأمر

: (ماشي...اتفضلي)

وأركبها معه السيارة.

 

 أخذت تتكلم بلا توقف وهو يستمع بلا اهتمام ولا تركيز وكل تفكيره منصب على إصلاح الجوال، لم يلتقط سوى أنها تصرف على البيت، علاج أمها ومصاريف إخوتها بعدما توفى والدها والمعاش الذي تصرفه الشئون مثله مثل العدم.

 التفتت إليه وبصوت به أنوثة

: (إنت عمرك كام؟)

: (حزري كده؟)

: (تلاتين)

: (تلاتين  !!!دا انا داخل ع الخمسين)

: ( ما يبانش عليك إنت شكلك صغير وشعرك أسود فاحم مفيهش ولا شعرة بيضا والبياض بتاع عنيك ناصع)

 

أحس بالنشوة وهي تصب هذا الكلام في أذنيه واعتدل ناظراً إليها وقد أوقف السيارة على جانب الطريق

: (بس انتي أنوثتك واضحة رغم إنك تحت العشرين)

تصنعت الخجل..: (.وعرفت ازاي)

 

انتحى الحديث بهما إلى أن وصل وقد وجد نفسه وقد أمسك يديّها وضغط عليهما ضغطة كلها شَبق حتى سقط الموبايل الذي في يدها بأرضية السيارة وقامت بأخذه فاحتضنها من الخلف وقبلها برقبتها فانتفضت وبهدوء قالت له

: (لا لا مش هنا ...حد يشوفنا)

اطمئن لرد فعلها واعتدل على كرسي القيادة

: (طيب تحبي نروح مكان)

:(نتغدا الأول في مطعم  إنت مش جعان)

:(ماشي)....

همس لنفسه : (كويس نتغدى وأكون ظبط الشقه بس أشوف فين دلوقت... يا سلام لو كنت خلتلي شقه إيجار ولا تمليك للمواقف اللي زي دي)

وشرد بتفكيره هل ما سأفعله صحيح أم خطأ؟

 

... ميرفت ( اسم زوجته) هي السبب هي التي تدفعني لمثل هذا الموقف فكلما أحاول الانفراد بها تتحجج بالأولاد والأعباء التي عليها من أول طلوع الشمس حتى تصل إلى السرير وهي مستهلكة بعد المجهود الذي تفعله في عملها ومع الأولاد من مذاكرة وإعداد كل مايلزمهم من أكل وشراب، حتى يوم الإجازة الأسبوعية، تقضيه في نظافة الشقة وغسيل الملابس.

 وهو ما تسبب في آخر شجار بينهم وكان من نتيجته أن أوقع زجاجة المياه الغازية علي جواله الذي تركه في محل الجوالات لإصلاحه وهو أيضا ما أوقع هذه الفتاة في طريقه.

 

تناسى الإثنان موضوع إيصالها لأمها التي بالمستشفى واخذا يبحثان عن مطعم لتناول الغداء، وفعلا وقع اختياره على أحد الأماكن الهادئة والفاخرة نوعا ما، نزلا من السيارة وتأبط ذراعها ولكنها رفضت متحججة بأن ممكن أحد ما يعرفها يراها وتحدث لها مشكلة وخاصة هي مخطوبة ولربما الذي يراها يخبر خطيبها فترك يدها وجعلها تمشي بمسافة عنه حتى دخلا المطعم.

 

أحس وهو يدخل أن عاملي المطعم ينظرون إليه وإليها في ريبة فالوضع غير متناسق فالواضح أنه يكبرها في السن فغير المعقول أن تكون هناك علاقة بينهما سوى أب وابنته

كسا وجهه الإحمرار من الخجل ولكنه قال في نفسه: (اتصرف عادي حتى لا يرتاب أحد .)

 

جلسا إلى الطاولة بآخر المطعم حتى يهرب من النظرات التي ربما يتوهمها وأيضا ليكون في أريحية بأخذ لمسة أو قبلة أو أي شئ من هذا القبيل ليصبر نفسه حتى يستطيع تدبير شقة لقضاء وقت المتعة.

 

أخذت الفتاة تحرك جوالها بين يديها وهو بالكرسي الذي يقابلها من المنضدة وهو ممسك بيدها الأخرى ويلثمها في حذر من أن يراه أحد

 

استأذنته للقيام إلى الحمام وطلبت منه استعجال الأكل لأنها في قمة الجوع.

أشار إلى النادل مستعجلا الطعام.

رجعت وهي تبتسم...

(تصور الناس هنا يفتكرونا مخطوبين هههه ومستغربين إني صغيره خالص عليك.)

شعر حازم بضيق بدأ يزحف إليه

وازداد بإلحاحها لطلب الأكل وأخذت تسب وتشتم وتهم بالذهاب إلى النادل لتوبخه على هذا التأخير لكنه ألجمها قائلا (اقعدي ..اقعدي) بصوت به زجر.

 

وأخيراً وصل الطعام بعد نصف ساعة من الانتظار وقبلها كانت تتأفف وأكثرت من الأسئلة عن عمله وعن اسم المكان هذا حتى تجعل خطيبها يحضرها فيه فهو مكان راق ولكنه لن يستطيع إحضارها لأنه محدود القدرة المالية والمكان أسعاره نار.

 

جعلته يكتب لها رقم جواله وأيضا اسم صفحته على الفيس، وانكبّت علي الطعام تلتهمه التهاما وهي تقول: ...(معلش أنا ما أكلتش من الصبح.)

 

ترفق بحالها ونظر إليها بإشفاق وقرر عدم إتمام ما كان ينتوي فعله فالواضح أنها فتاة مغلوبة علي أمرها ومسكينة وكما أنه لم يستطع تدبير الشقة للقاء المنتظر، تناول بعض اللقيمات وترك لها الباقي وقال لها، (لو تحبي نخليهم يلفوا الاكل المتبقي وتخديهم معاكي)

: (والله.. ...ماشي)

 

ذهب عند الكاشير ليحاسب وأمرهم بإعطاء باقي الأكل للفتاه

وكان قبل أن يترك الطاولة ناولها مائتين جنيه وأخبرها أنه تذكر موعد هام سيذهب إليه ومعها رقم موبايله إذا احتاجت لأي شىء

 

ركب سيارته وهو يتمتم بأنه ولله الحمد رجع إلى صوابه ولم يرتكب فعلة يندم عليها و لعل تصدقه على تلك الفتاة البائسة وتركها، والاكتفاء بما أخذه من بعض القبلات والأحضان الخفيفة يخزن له في حياته.

 

ذهب إلى محل الجوالات وهو بقمة الراحة والسلام، وأحس أن فعله مع الفتاة قد أتى بثماره الحسنة، عندما أخبره مهندس الصيانة بأن الجوال سليم الآن وكل ما عليه من بيانات تعمل بشكل ممتاز ولم يتأثر بالمياه الغازية، وقد نجح في إزالة آثارها

شكره وهو في قمة الفرح وأعطاه ما طلبه من أموال .

 

أعاد فتح الجوال وهو ينتظر أن يعمل، وفعلاً بدأت الرسائل تتوافد على جواله، وهو يتفحصها واحدة تلو الأخرى إلى أن استوقفه رقم لا يعرفه على الواتس آب

 

فتح الرسالة وإذا بها مجموعة صور وعندما اكتمل تحميلها وجد صور له شخصياً وهو يقبل إحدى الفتيات غير واضحة ملامح وجهها وهي تقاومه وصور أخرى عديدة بأوضاع متعددة وهو في حالة هيام

 

وتحت الصور رسالة..

(معلش صورتك وانت مش واخد بالك المرة الجاية تاخد بالك بس هاتلي معاك وانت جي خمسين ألف جنيه وإلا كل أصدقائك ع الفيس هيفرحوا بصورك دي وغير مراتك واللي هتعملوا فيك.)